منذ القدم كانت الرياضة حيث كان الانسان يمارسها بشكل عملي من خلال الصيد والاعمال الزراعية من أجل تأمين قوت يومه والدفاع عن نفسه وعن عياله. ومع تطور الحضارات أوكل المجتمع أمر الدفاع عن أفراده الى الجيش وانشغل الناس بممارسة المهن المختلفة من تجارة وزراعة وصناعة وأعمال حرفية إضافة الى الوظائف الإدارية في المؤسسات العامة والخاصة. فمنذ الحضارات القديمة من فرعونية ويونانية الى اليوم كان تدريب الجيوش يقوم بشكل أساسي على ممارسة الرياضة من أجل الاستعداد للمعارك والحروب.
وفي العصر الحديث وخاصة بعد الحرب العالمية الاولى والثانية أعطت الدول أهمية كبرى للرياضة حيث تمت إقامة الاولومبياد الذي أصبح يشكل موسما تتنافس فيه الدول من أجل إثبات مكانتها من خلال الحصول على الجوائز الدولية والعالمية. وهو ما دأبت عليه الدول الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين وغيرها. من هنا فقد أصبحت الرياضة تشكل نموذجا عالميا تشترك فيه معظم دول العالم سواء من خلال المنافسة أو المشاهدة نظرا للمتعة والاثارة التي تشكلها هذه المسابقات الرياضية الدولية.
ومع ظهور الثورة الصناعية والتكنولوجية الحديثة وسيطرة الالة مكان اليد العاملة وتحول الكثير من الوظائف الى العمل المكتبي فقد تراجع إستخدام الحركة في العمل مما أدى الى زيادة حالات البدانة والسمنة التي تسببت بالعديد من الامراض المزمنة كالضغط والسكري والكوليسترول. الامر الذي زاد من الحاجة الى الرياضة كضرورة صحية لتجنب الامراض المزمنة وزيادة الحركة والرشاقة في الحياة اليومية للمواطن. وعلى الرغم من أهمية هذا البعد الجسدي فإنه لا يمكن إختصار الرياضة به فهناك أبعاد أخرى نفسية وإجتماعية وإقتصادية وثقافية ترتبط بممارسة الافراد والشعوب للنشاط الرياضي.
فالرياضة تشكل متنفسا للتخلص من الضغوطات النفسية والمشاكل الحياتية وهي تعمل من خلال أجوائها الحركية والحماسية على إخراج الفرد من حالة الاضطراب والقلق الى حالة الاستعداد والجهوزية لمواجهة تحديات الحياة المختلفة. أما على المستوى الاجتماعي فإن الرياضة تشبع لدى الفرد حاجة القبول والرضى عن الذات من خلال زيادة ثقته بقدراته الجسدية وشعوره بالانتماء الى الفريق او النادي الذي يلعب معه. كما تعمل الرياضة على تربية الفرد على إحترام القوانين بشكل عام بسبب إلتزامه باتباع القواعد الرياضية.
ومما يزيد من أهمية الرياضة هي تلك المبادئ الاخلاقية التي نشأت وتطورت على أساسها والتي تدعو الى اللعب النظيف والروح الرياضية التي تقوم على إحترام الاخر في حالتي الربح والخسارة. وإذ أصبحت الرياضة تشكل طموحاً لدى الكثير من الشباب لما تحققه لهم من مكانة إجتماعية وبسبب رغبتهم بالاحتراف من أجل الحصول على المكاسب المادية والشهرة العالمية فقد استفاد منها أيضا رجال الاعمال من خلال إستثمار النوادي الرياضية واللاعبين والالبسة والادوات الرياضية حيث لعبت وسائل الاعلام دورا أساسيا في الترويج للمسابقات الرياضية وإنتشار الرياضة في مختلف بلدان العالم. حيث أصبح بعض اللاعبين الاكثر شهرة يشكلون مثالا أعلى لكثير من الشباب لما يمتلكونه من مهارات إبداعية ونجاح وغنى مادي ومعنوي.
وتشكل المباريات الدولية مساحة مشتركة للتعاون والمشاركة بين مختلف دول العالم ومجالا للتفاعل الثقافي والحضاري بين هذه الدول بسبب إنتقال اللاعبين من بلد إلى آخر ومشاركة جماهير الدول بشكل مباشر في حضور هذه المباراة أو غير مباشر عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا الجو التنافسي بين الدول والتعاون والمشاركة في ما بينها جعل من الرياضة شأنا عاما عالميا مما أضاف إليها عنصرا جديدا هو المرأة التي أصبح لها دورا مهما في المسابقات الرياضية. كما شجع ذلك ذوي الاحتياجات الخاصة على ممارسة الرياضة لما لها من أهمية على مستوى تقوية بنيتهم الجسدية من جهة وتجاوز الاثار النفسية السلبية للاعاقة من جهة ثانية. إن هذه الاهمية المجتمعية والجماهيرية للرياضة دفعت العديد من الاحزاب ورجال السياسة إلى استغلال الاندية الرياضية من خلال تملكها أو دعمها ماديا وسياسيا من أجل إستمالة جماهيرها لصالحهم في الحياة السياسية العامة لاسيما في الإنتخابات النيابة والبلدية.
ونظرا لهذه الفوائد المختلفة للرياضة على المستوى الجسدي والنفسي والاجتماعي والإقتصادي والثقافي فقد نشأت حركة الرياضة للجميع التي تدعو الى مشاركة أفراد المجتمع كافة في الانشطة الرياضية. حيث تعلن الجمعيات التابعة لهذه الحركة عن أيام محددة خلال العام من أجل إقامة مسابقات الجري (الماراتون) التي يشارك فيها الجميع كبارا وصغارا نساءا ورجالا، وذلك من أجل تحفيز أفراد المجتمع على المشاركة الرياضية. كما تعمل الدول من خلال بلدياتها على إنشاء الحدائق العامة التي تتضمن ألعابا رياضية ترفيهية وطرقا خاصة من أجل ممارسة رياضة الجري والمشي لمختلف المراحل العمرية، بالاضافة الى النوادي الرياضية المختلفة التي تسمح للمواطنين بالمشاركة في الانواع المختلفة للرياضة بحسب رغبة كل منهم.
إن هذا الإهتمام بالرياضة والتشجيع على ممارستها جعل منها سلوكا" ثقافيا مجتمعيا ونمطا" حياتيا" تقاس من خلاله حضارة الدول وتقدمها لما تتميز به الشعوب الرياضية من قدرة على الإنتاج واستعداد للتعاون والتزام بالقواعد والقوانين واحترام للآخر بالإضافة إلى قدرتها على مواجهة التحديات والأزمات السياسية والعسكرية والإقتصادية التي تتعرض لها وذلك لما تتمتع به من نشاط وحيوية.
مقال للدكتور "هاني حيدر"
2024 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال