إذا لم تكن تقرأ هذه السّطور من خلال رابط أرسله إليك صديقك، فليس من الصعب الافتراض أن أكثر تطبيق تستخدمه على مدار يومك هو "واتساب"، تطبيق التراسل الفوري العالمي الشّهير ذو العلامة الخضراء المميزة، والذي أحدث طفرة كبرى في التواصل خلال السّنوات الماضية، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى الشّركات والمشاريع والمجموعات أيضًا.
تتحدث الإحصاءات عن أرقام مذهلة حققها تطبيق "واتساب" خلال العام 2022، ففي الثانية الواحدة تُرسل نحو 1.1 مليون رسالة عبر التطبيق عالميًا. وخلال دقيقة واحدة، تكون خوادم "واتساب" قد نقلت نحو 70 مليون رسالة بين مستخدميها، بينما يصل حجم الرسائل المتبادلة على التطبيق، خلال ساعة واحدة فقط، أكثر من 4.2 مليارات رسالة. هذا القدر الضخم من الرسائل يُتبادَل بين أكثر من 2.4 مليار مستخدم، مما يجعل "واتساب" واحدا من أكثر التطبيقات تحميلًا على الهواتف الذكّية على الإطلاق.
فمَن هو الشخص الذي يقف وراء تأسيس هذا التطبيق هائل الانتشار؟ وكيف كانت رحلته؟
رواية "1984" على أرض الواقع
البداية لم تكن في وادي السيليكون أو في أي مدينة مليئة بناطحات السّحاب في الولايات المتّحدة؛ بل كانت في منزل فقير في إحدى ضواحي العاصمة الأوكرانية "كييف" في العام 1976، حين كانت أوكرانيا تابعة للاتحاد السّوفياتي السّابق. في الواقع، كانت الأمور سيئة للغاية، لدرجة أن المنزل الذي وُلد فيه "جان كوم" لم يكن يحتوي على مياه جارية أو كهرباء مستمرة، وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى المدرسة التي تردّد عليها في طفولته.
جاء "الفرج" على هيئة خطاب من الحكومة الأميركيّة بقبول طلب الأسرة بالهجرة إلى أراضيها، حيث هاجر "جان كوم" مع والدته وهو ابن 16 عاما، وذلك في العام 1992. حاول أبوه اللّحاق بهم، ولكنه لم يستطع وتوفي في أوكرانيا في العام 1997. وقف القدر في صفّ "جان" عندما قرر أنّ البلدة التي سوف تستقبل عائلته هي "ماونتن فيو" في ولاية كاليفورنيا، حيث سكنا في شقة صغيرة للغاية تمنحها الحكومة الأميركيّة للاجئين والمهاجرين الجدد، لمساعدتهم على التأقلم في المجتمع وتعلّم الّلغة.
بالفعل، وبالاعتماد على شراء "بقايا الطعام" المعاد تغليفه بأسعار زهيدة للغاية بدأت الأسرة حياتها الجديدة في الولايات المتّحدة، حيث عملت الأم "جليسة أطفال"، بينما عمل الابن المراهق في تلك المرحلة "منظف أرضيات" للمحال التجارية للحصول على بعض الأموال التي تساعده في الدراسة.
"لم أكن أعرف ما هو الحاسب الآلي حتى عمر الـ18.. لكن كنت أعرف لعبة الحاسبة اليدويّة"
بعد التحاقه بالثانويّة، ومع الاتجاه العام في ولاية كاليفورنيا للاهتمام بالتقنيّة عمومًا، قابل "جان كوم" لأوّل مرة "جهاز الحاسب الآلي" الذي لم يكن مرّ عليه سابقًا على الإطلاق، فضلً عن بالتعامل مع شبكة الإنترنت التي كانت متزايدة الانتشار بشكل هائل في أميركا آنذاك. أبدى الشّاب اهتمامًا كبيرًا بتعلّم البرمجة وأساسيّات الحاسوب، وعلَّم نفسه ذاتيًا عبر شراء الأدلّة المختلفة من المتاجر المحلية وتطبيق ما يقرأه بنفسه.
رغم أنّه لم يكن طالبًا مجتهدًا على الإطلاق في المرحلة الثانويّة، وكان "كثير المشكلات" كما يصف نفسه، فإنّه استطاع بعد أن تخرّج بصعوبة بالغة أن يلتحق بجامعة "سان خوسيه"، ثمّ بدأ العمل في مؤسسّة "إرنست آند يونغ" (Ernst and Young) العالميّة الشهيرة موظفًا في قسم "اختبار أمن المعلومات". في تلك الأثناء، وبعد عدة أشهر فقط من تولّي وظيفته، قابل "جان كوم" لأوّل مرة زميله الجديد "برايان أكتون" الذي كان يعمل في شركة "ياهو" (Yahoo)، والذي استطاع أن يوفّر له فرصة عمل في المجال نفسه "الاختبار الأمني" في شركة "ياهو" التي كانت تُعَدُّ آنذاك -العام 1997- أضخم شركات التقنيّة في وادي السّيليكون وأكثرها نموًا، قبل حتى تأسيس شركة "غوغل".
بعد بقائه لعدة شهور في "ياهو" بوصفه مختبِرًا أمنيًا بدوام كامل، قرر "جان كوم" عدم الاستمرار في دراسته الجامعيّة والتفرّغ لمساره الوظيفي، وفي الوقت نفسه ساعدته وظيفته في الانضمام إلى مجتمعات تقنيّة متطوّرة في وادي السّيليكون استطاع من خلالها تطوير خبراته وتجاربه سريعًا في عالم أمن المعلومات. ومع ذلك، ومع الاستقرار الوظيفي، فإنّ خبرًا سيئًا كان ينتظر "جان كوم" على الجهة المقابلة، عندما عرف أنّ والدته أُصيبت بالسرطان، وهي تقاتل في مراحله الأخيرة حتى تدهورت حالها، ورحلت عن العالم في العام 2000.
أغلى رفض في التاريخ
على مدار تسع سنوات كاملة، لبث "جان كوم" في وظيفته التقليدّية في "ياهو" التي وفَّرت له دعمًا ماديًا ومعنويًا كبيرًا، حيث حصل على ترقية ليصبح مديرًا لقسم البنيّة التحتيَّة في الشّركة العملاقة. وكانت علاقته بزميله القديم "برايان أكتون" قد توطّدت أكثر بكثير، حتى قرّر كلاهما القيام بمغامرة كبيرة وهي الاستقالة من العمل في "ياهو" في خريف العام 2007، وأخذ عطلة لمدة عام كامل يسافر فيها الصديقان إلى أنحاء مختلفة في الولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت الممتع بعد سنوات من العمل المستمر.
بعد عودتهما من العطلة، واعتمادًا على خبرتهما الكبيرة في شركة "ياهو" التي كانت قد بدأت في التراجع، بشكل حاد بين الشّركات التقنيّة، تقدّم كلاهما للالتحاق بوظيفة في شركة "فيسبوك"، لكنَّ كليهما فوجئ بالرفض، وكان سبب الرفض هو أنّ مهاراتهما لا ترقى للعمل في الشّركة! هذا الرفض تحديدًا سيخلّده التاريخ التقني في أرشيفه لاحقا ربما بوصفه "أغلى رفض في التاريخ"، عندما تدور الأيام ويهرع مؤسس فيسبوك لمقابلة كلٍّ من "جان" و"بريان" بنفسه، بل ويتودّد لهما بالقدوم إلى منزله.
ففي مطلع العام 2009، اشترى "جان كوم" هاتف "آيفون"، ولاحظ أنّ الهاتف الجديد قد أطلق متجر تطبيقات "آب ستور" (App Store)، والذي أدرك فورًا أنه يعكس أهم نقلة تقنيّة في السّنوات المقبلة، وهي "تطبيقات الهواتف الذكيّة". ومع شبكة علاقاته الواسعة التي كوّنها في "ياهو"، زار الشّاب عددًا من أصدقائه التقنيين لاستشارتهم ومعرفة المزيد عن تفاصيل صناعة التطبيقات التي كانت جديدة آنذاك، حتى قرّر هو وصديقه العتيد "بريان أكتون" تأسيس شركة لتطوير تطبيق للمراسلة الفوريّة عبر الهواتف، لم يتعب في اختيار اسمه "واتساب" (Whatsapp)، وهي الكلمة الشبيهة نُطقا بكلمة "What’s Up" التي تعني "ما الجديد؟".
كان "جان كوم" قد أتمّ عامه الثالث والثلاثين عندما أطلق شركته الناشئة الجديدة "واتساب" في كاليفورنيا في مقرّ صغير يحوي بعض الموظفين الذين جلبوا معهم أغطيتهم ومقاعدهم الشّخصيّة من المنزل، لتبدأ رحلة تأسيس "شركة ناشئة" كانت تبدو أمرًا عاديًا تمامًا آنذاك.
خلال الأشهر الأولى من العام 2009، لم يبدُ أي تأثير يُذكر للتطبيق الجديد. لاحقًا، وفي منتصف العام، أطلقت شركة "أبل" خاصية "التنبيهات" (Push Notification) التي سمحت للرسائل بالظهور مباشرة للمستخدم، وهو ما جعل "كوم" يغير تنبيهات واتساب إلى نغمة "بينغ" (Ping) الشّهيرة التي تصدر من الهاتف بعد تلقي الرسائل. بعد هذه الإضافة، ومع المزيد من تطوير التطبيق، لاحظ "كوم" تزايد الإقبال على تحميلات التطبيق بشكل متسارع، خصوصًا في الدّول الناميّة.
مع تزايد إقبال المستخدمين على التطبيق عالميًا، كونه وسيلة مراسلة غير مكلِّفة بديلة عن رسائل الهاتف القصيرة "SMS"، بدأ التطبيق في تكوين قاعدة مستخدمين، واستطاع حصد جولة تمويل بذرية مبدئية (Seed Fund) بقيمة 250 ألف دولار، ليبدأ في تسريع وتيرة التطوير بشكل أكبر.
ما أسهم في تسريع نمو المستخدمين هو ابتعاد التطبيق عن استخدام الإعلانات تمامًا، والمحافظة على الحدّ الأدنى من الخصوصيّة للمستخدمين. هذا الاتجاه جعل تطبيق "واتساب" ينمو سريعًا بين المستخدمين في العالم من دون استخدام أي حملات تسويقيّة أو حملات علاقات عامّة، خصوصًا في الدّول النّامية التي وجد مستخدموها فرصة ممتازة للتواصل بلا تكلفة. بقدوم العام 2012، تلقى "جان كوم" اتصالًا مرحًا من "مارك زوكربيرغ" مؤسس فيسبوك، يعرض عليه الخروج معا وتكوين "صداقة".
بمرور الوقت، تكوَّنت علاقة صداقة بين الشّابين، وأصبحا يتناولان القهوة معًا، ولديهما أرقام هواتف بعضهما بعضا. كان من الواضح أنّ "زوكربيرغ" يراقب تطوّر نمو "واتساب"، وقواعد المستخدمين المتصاعدة سريعًا للغاية التي يحققها التطبيق، ويحرص على إبقاء علاقته قويّة مع مؤسسه التي استمرت لمدة عامين كاملا، حتى جاء اليوم الموعود في فبراير/شباط 2014.
"كلّ ما أريده هو أن أفعل شيئًا واحدًا فقط، وأفعله بشكل جيّد".
في التاسع من فبراير/شباط 2014، طلب "مارك زوكربيرغ" من "جان كوم" أن يحضر إلى منزله لتناول العشاء معا في سهرة وديّة معتادة. وعند جلوسهم جميعًا، وجد "كوم" أمامه على الطاولة عرضًا رسميًا للصفقة التي يعرضها عليه "زوكربيرغ"، وتسمح لفيسبوك بالاستحواذ الكامل على تطبيق واتساب، وضم "جان كوم" إلى مجلس إدارة فيسبوك، مقابل صفقة إجمالية تُقدَّر بـ19 مليار دولار. ورغم ضخامة الرقم، طلب كوم بضعة أيام للتفكير، ثم عاد مرة أخرى لمناقشة بعض شروط الصفقة مع "زوكربيرغ"، وذلك في يوم 14 فبراير/شباط.
لم يكن تردد "جان كوم" مبالغًا فيه، كما يمكن للبعض أن يظن، فتطبيق "واتساب" في بداية العام 2014 كان قد وصل عدد مستخدميه في العالم إلى 450 مليون مشترك، 70% منهم يستخدمون التطبيق بشكل فعّال يوميًا، فضلاً عن مليون مشترك إضافي يقوم بتحميل التطبيق يوميًا. هذه الأرقام الضخمة كانت تقود التطبيق ليصبح منافسًا رئيسًا لفيسبوك قريبًا، وهو ما استدعى أن يشاور "جان كوم" عددًا من أصدقائه والمستثمرين الذين قدَّموا عدة جولات تمويليّة للتطبيق منذ إطلاقه في العام 2009.
أخيرًا، قرر "جان كوم" الموافقة على عرض استحواذ فيسبوك على شركته، وهو ما جعله ينضم إلى نادي مليارديرات العالم بثروة قُدِّرت العام 2014 بنحو 7.5 مليارات دولار، حيث كان يمتلك 45% من أسهم الشّركة، واستمرت ثروته في التصاعد مع تصاعد قيمة سهم فيسبوك الذي أصبح عضوًا في مجلس إدارته، لتصل إلى نحو 13.8 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول 2022..
في النهاية، بدأ "جان كوم" رحلته في الحياة من ضواحي بلدة سوفياتيّة، ثمّ مهاجرًا يعمل في تنظيف الأرضيّات، ثمّ موظفًا لعدة سنوات طويلة اكتسب منها الخبرة والتّجارب، قبل أن يطلق تطبيق "واتساب" وهو ابن 33 عاما، ليشهد أخيرًا توقيع أكبر صفقة استحواذ تقني شهدها العالم آنذاك، وهو ابن 38 عامًا، بثروة تُقدَّر آنذاك بسبعة مليارات دولار، ووصلت إلى ضِعْف هذا المبلغ لحظة قراءتك لهذه السطور.
مع ذلك، ورغم هذه الرحلة الطويلة، فإنّه يرفض تماما لقب "رائد أعمال"، حتى إنّه صرّح ذات مرة قائلاً: "الشّخص الذي سوف يصفني بأنيّ رائد أعمال، سأجعل حارسي الشّخصي يلكمه في وجهه".
المصادر:
10 WhatsApp Statistics Every Marketer Should Know in 2022
The rags-to-riches story of WhatsApp cofounder Jan Koum
Jan Koum
Jan Koum: The Inspirational Story of the Founder of WhatsApp
Exclusive: The Rags-To-Riches Tale Of How Jan Koum Built WhatsApp Into Facebook’s New $19 Billion Baby
اقتباسات – جان كوم
المصدر : الجزيرة نت
تلعب حبيبة مع بعض الخراف في المزرعة وتطلق على كل واحد منها اسما خاصا
كيف يعيش الأطفال الفلسطينيون منذ أكثر من سبعة عقود تحت وطأة الاحتلال وفي مخيمات اللجوء؟
2025 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال