"السّوشيال ميديا والتّصوير وهوس الشّهرة بأي طريق..أثّروا سلبًا على تفكير النّاس وعقليتهم"؛ "المشكلة بمثل هذه القصص أنّه من الصّعب معرفة على من يقع اللّوم.."...
هذان نموذجان من التّعليقات التي وردت في مواقع التّواصل الاجتماعي إثر انشغال الرأي العام اللّبناني، في الأسبوع الماضي، بقضية الطفل "محمّد اسطنبولي" الذي قضى نحبه خلال تصوير مشاهد مرعبة في حديقة الحارة المجهّزة بالألعاب بمحاذاة موقع الآثار عند الواجهة البحريّة التي تُعرف بـ"الخراب"؛ في مدينة صور الجنوبيّة؛ حيث اعتاد أطفال الحارة على اللّعب.
انطلاقًا من هذين التّعليقين نطرح الأسئلة الآتية: هل من الصّعب فعلًا معرفة على من يقع اللّوم في مثل هذه القصص والقضايا؟..ألا يُعدّ هوس الشّهرة على مواقع التّواصل الاجتماعي سببًا في وقوعنا بالعديد من المشاكل والأخطاء في حياتنا؟ فهل يُلام فريق التّصوير وحده؟ أم المجتمعات والمشاهدين الذين يدعمون مثل هذه المشاهد ويتابعونها بتحفّز كبير؟!..
لا تنفكّ الأسئلة أمامنا عديدة؛ إزاء هذه الحادثة المأسويّة التي أودت بحياة الطفل "محمّد" بشكل غير مباشر، ففي يومنا الراهن، لم تعد التقنيّة أو التّكنولوجيا مسألة اختيار، من الممكن قبولها أو رفضها؛ بل تجاوزت كونها أمرًا طارئًا لتصبح عالمًا واقعيًا متعلّقًا بالوعي الجمعي، والذي بات يحاسب مدى تقدّمنا وتخلّفنا الحضاري بمقياس معياري مرتبط بمواكبة العصر السّريع الذي نعيشه.
إذ أضحت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، موجودًا أساسيًا، يفرض التّعامل معه؛ بل هو أحيانًا يملي علينا أراء ونقاشات، وفي أحيانٍ أخرى يعطينا إرشادات حول كيف علينا أن نعيش الحياة ونستمتّع بها.. لقد تطوّرت علاقتنا مع أجهزة التّكنولوجيا ومظاهرها طورًا غرائبيًا، بات يجعلنا نعوّل عليها للنجاح في حياتنا أكثر ممّا نخاف منها..
هذا التعويل هو تحديدًا ما دفع فريق التّصوير إلى القيام بعمل أرادوه غريبًا مشوّقًا مثيرًا للدهشة حتى الرّعب كي يجلب لهم المزيد من المشاهدات على مواقع التّواصل الاجتماعي، خاصة في "تيك توك"، والذي يدفع الأموال المغرية والطائلة لأي فيديو يجلب أكبر عدد من المشاهدات.. وهذه هي الحيثية القاتلة في الأمر.. فما معنى إلغاء دور العقل في دراسة العواقب والتداعيات لمثل تطبيق هذا المشهد التّصويري المرعب على الأطفال خاصّةً قبل الكبار ؟ هل انتبهوا إلى خصوصيّة هذا الإنسان الصغير البريء وقدراته الذهنيّة والتخيليّة إزاء تحمّل هذا المشهد؟
لا يبدو أنّهم انتبهوا إلى ذلك؛ أضف إلى أنّ رغبتهم في حدوث الضرر المرجو وقوعه- وهم يسمّونه التأثير الآثر عند المشاهد- كانت أكبر من خوفهم على من يقع عليه الفعل وعلى أنفسهم هم تحديدًا.. فكانت النتيجة غير المقصودة طبعًا موت الطفل ضحيّة، وإلقاء القبض عليهم والتحقيق معهم- وما يزال التحقيق جاريًا- وقد يؤدّي إلى الاتهام بجريمة قتل، حتى وإن بيّن أحد الأطباء من يومين لصحيفة لبنانيّة، في تطوّر جديد في القضية، أنّ الطفل "محمّد" كان لديه مشكلة في القلب، وإن لم تكن مشخّصة من قبل.
هذا الاندفاع "الغريزي" الكبير لتصوير مشهد مرعب بذاك الشّكل والمحتوى يسمّى الاستلاب؛ وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال آخر : هل تحوّل أملنا في أن يسهم التطوّر الهائل للتكنولوجيا في تحريرنا من العبوديّة للأنظمة المستبدّة إلى الوقوع في براثن استبداد أخر، وهو استلاب إرداتنا من هذه الأداة ذاتها؟
لقد سمحنا لهواتفنا وما فيها من تطبيفات الذكاء الاصطناعي بالسيّطرة علينا، وهذه السّيطرة تجعلنا خاضعين بشكل شبه تام، إن لم يكن تامًا، لها، فلم يعد بمقدورنا نحن صانعيها شنّ الحرب عليها، لنتفادى أثارها السلبّية؛ بل راحت هي من تشنّ الحربَ علينا وتهدّدنا بالحرمان منها. هي تدفعنا دفعًا، ونحن مشدوهين بها متفاخرين بامتلاكها، إلى عبوديّة جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل، وهي على ما يبدو الأخطر على الإطلاق على مستقبل البشريّة جمعاء..
يبدو أنّ هناك في العالم الرّقمي من لا يهمّه هذا الأمر كلّه، فهم يتدافعون، مجموعات مجموعات، بين لحظة وأخرى إلى تداول هذه القضية وتلك، والتي ينتهي الانفعال بها لينتقلوا إلى قضية أخرى.. فيبدو من الصّعوبة وصف قضيّة إنسانيّة ما بالشموليّة، إذ ما لبث أن تحوّل الخلاص فرديًا مختزلًا آنيًا ... سواء أُلزمنا على الانغماس في العالم الرّقمي أم ألزمنا أنفسنا فيه، النتيجة واحدة، فقد أصبج الإنسان فردًا اجتماعيًا داخل "دائرة إلكترونيّة"- بحسب تعبير الفيلسوف والكاتب الكندي "مارشال ماكلوهان"- تُسيطر على حياة الشّعوب وتؤثر على أفكارها ومؤسّساتها.
أمام أعيننا، نشهد انهيار عالم كنّا نعتاده قبل عشرين سنة على الأقل.. اليوم، كلّ إنسان مُجبَر على الانغماس في هذا العالم الرّقمي المذهل في الدوران والّلعبة الحلزونيّة، حتى صار الأمر عادة لحظويّة أكثر من يوميّة باستخدام مواقع التّواصل الاجتماعي، حيث يؤثّر التّفاعل المتبادل في الشّعور الفردي، فيحبطه تارة ويرفعه تارة أخرى. ينهار عالم أهلنا وأجدادنا، ونحن نخلق لأنفسنا عالمًا جديدًا.. ولكن في كلّ عمليّة خلق جديد هناك ضحايا ..
ففي محاولات التأريخ، تتردّد مقولتان: كان عالمٌ ذات يوم قائمًا، وانهار، فنشأ عالمٌ آخر عوضًا عنه. من هم ضحايا هذه الانهيارات؟ لا إجابات واضحة أو محدّدة.. فمن المسؤول عن وفاة الطفل "محمّد" في ظل هذا الواقع؟ السّوشيال ميديا، هوس جني المال والشّهرة، المجتمع الرقمي، حضارة الذكاء الاصطناعي.. ؟؟!
مَن سيكون ضحيّة هذا الانهيار؟ .. ثمّة أجيال سابقة التصقت بها صفة ضحيّة نشوء عالم الميديا.. إذ إنّ التاريخ، ليس دائمًا قفزة إلى الأمام؛ بل قد يكون ردّة إلى الوراء في أحيانٍ كثيرة، أو دائمًا ما يكون كلا الأمرين معًا- كما يقال..
موقع آمان الأطفال/ د. زينب الطّحان
يفرض القانون على الأفراد الذين يشاركون في الترويج لأسلوب حياة من دون أبناء غرامة قدرها 400 ألف روبل
ركز المؤتمر على أهمية حماية الأطفال في العصر الرقمي من خلال تنفيذ تشريعات قوية لحمايتهم من الأضرار عبر الإنترنت
أطفال لبنان النازحون، أي واقع يواجهون؟ وكيف يمكن للأهل التخفيف عنهم وطأة هذه النزوح نفسيًا؟
2024 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال