يفتخر بعض الأباء بأنّ أطفالهم الصغار شديدو الذكاء لقدرتهم على فكّ أسرار التعامل مع المواقع الإلكترونيّة والعالم الافتراضي. بدورنا نشاركهم هذا الافتخار، إنّما هل نتريّث لبعض الوقت والتوقّف أمام مسألة لها الأولويّة في ترسيخ هذا الذكاء عند الطقل، ألا وهي:
هل كلّ أشكال العالم الافتراضي، وخصوصًا التلفاز وتطبيقات الهواتف والألعاب الإلكترونيّة، تسهم بفعاليّة في تذكية القدرات التعلّميّة للأطفال؟ هل تبني لدى الطفل معرفة وثقافة متراكمة تسهم في بناء شخصيّته ونموّها بشكل سليم؟ ماذا بشأن القراءة والمطالعة والكتابة؟ هل أصبحت من الماضي، وتاليًا هل العوالم الافتراضيّة قادرة على التعويض عنها في الدّور والنتيجة؟
في حديث شائق مع الاختصاصيّة، في علم نفس عيادي - توافقي الدكتورة "حنان مرجي"، تؤكّد أنّه مهما بلغت أجهزة الذكاء الاصطناعي من تطوّر، فلا يمكنها أن تحلّ بديلًا عن ضرورة تعلّم الطفل مهارات أساسيّة من الحياة اليوميّة الميدانيّة المباشرة، بشكل حسّي ومدرك لحثيات عمليّة التعلّم. إذ، في هذا السّياق، تعكس وسائل الإنترنت ووسائطه بمختلف أنواعها، نتائج عدّة ومنها التسبّب بمعاناة حقيقيّة، تكمن في خلق صعوبات تعلّميّة عند الطفل.
تقول الدكتورة "حنان" إنّ استمرار مشاهدة الطفل لفيديوهات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي ولوقت طويل، وكذلك بحال مشاهدته التلفاز بنسبة طويلة من وقته اليومي، سيؤدّي بطبيعة الحال إلى مشاكل عديدة، سيدفع الأهل ثمنها قبل الطفل، والذي سيعاني تباعاتها لاحقًا في مراحل متقدّمة من حياته المدرسيّة. وذلك لعدة أسباب- كما تبيّنها ضيفة موقع "أمن الأطفال" الدّكتورة "حنان مرجي" بقولها :
أولًا؛ الأطفال الصّغار، من هم في الرّوضات وأصغر، كثيرًا ما يشاهدون أفلام الكرتون الصّامتة، وهذا يؤثر سلبًا على تقّدم قدراتهم في النّطق، فالشّخصيات التي يتأثرون بها لا تتكّلم، وهذا يفضي بهم إلى تأخر في النّمو اللّغوي، ومشاكل في اللّفظ، وذلك خصوصًا إذا كانت الأم كثيرة الانشغال والوسط الاجتماعي ضيق من حول الطفل.
ثانيًا؛ يُترك الطفل، أحيانًا كثيرة، من دون رقيب أمام شاشة التلفاز، حتّى لو الأباء حدّدوا له القناة، فما يشاهده أفلامًا عشوائيّة من جهة، ومعظم أفلام الكرتون باللّغة الأجنبيّة من جهة ثانية، وأخرى قليلة ناطقة بالعربيّة الفصحى، ما سيربك لديه النّطق السّليم في لغته العربيّة – لغته الأم- بل قد يصل الأمر عند بعض الأولاد أنّهم يستصعبون اللّغة العربيّة في المدرسة، في حين أنّ الإنكليزيّة، خصوصًا، باتت مألوفة على أذهانهم أكثر.
أضف إلى ذلك ما قد يتعرّض له هذا الطفل من تشتّت في بعض الأفكار. فهو، في أغلب الأحيان، يلحق بنظره ووعيه الصّورة التي تسيطر على حواسه، فتختلط لديه معاني الكلمات والألفاظ مع أداء الشخصيّات.. وهذا يؤدّي لاحقًا إلى تعثّر في استيعاب الطفل للمواد المدرسيّة، بالأخصّ على صعيد اللّغة..هذا لا يعني إنّنا ضد التنوّع اللّغوي، فهو أمر مهمّ ومطلوب في تحسين القدرات اللفظيّة عند الأطفال، إنّما ليس بهذا العمر الصغير والحسّاس. فهو في مرحلة التعرّف إلى عالمه الجديد.."
تضيف "مرجي" لتعطي دليلًا على ما تدلي به، أنّه: "في ألمانيا مثلاً، تطلب الحضانة من أهل الطفل عدم التكلّم معه باللّغة الألمانيّة في المنزل؛ بل بالعربيّة، فالطفل سيتعلّم اللّغة الأجنبيّة من خلال تفاعله معهم في الحضانة، أمّا الأهل فعليهم تأسيسه على اللّغة الأم. فكما نلاحظ تناسق الأدوار كي لا يّربك الطفل وهو يحاول استيعاب المعاني وألفاظها. وهذا بخلاف ما نقوم نحن به في لبنان، حيث المفروض أن نتكلّم معه بالعربيّة في البيت، وهو يتعلّم اللّغة الأجنبيّة في المدرسة. إذ ألاحظ ذلك بكثرة مع أولاد يأتون إلى عيادتي تستوقفهم العديد من الكلمات يطلبون فهم معناها..فإذًا التوزاي بين تعليم اللّغتين مطلوب، سواء كان ذلك في المدرسة أو عبر أفلام الكرتون..كي لا يأتي الأهل بعد ذلك ويشتكون بأنّ ولدهم لا يحبّ اللّغة العربيّة أو لا يفقه معنى الكثير من الكلمات..
بناء على هذه المعطيات؛ تحبّذ الدكتورة "حنان" أن نبدأ في قراءة القصص للطفل باكرًا، فهو يبدأ بالتفاعل مع الأصوات- أي اللّغة- ومع المحيط والبيئة منذ الولادة. فكل كلمة نقولها له هي قصّة. فيتعلّم اللّغة بالتكرار. هذا يعني أنّ كلّ كلمة يحفظها الطفل فهي بالتكرار.. أمّا من ناحية القصّة، فإنّ لكل فئة عمريّة قصص يتأثّر بها. فنلاحظ، بأنّ الطفل الّذي لا يزال بسنواته الأولى- أي منذ الولادة إلى عمر الثلاث سنوات – يجب أن تختلف ما نقرأه له من قصص عندما يصبح في سن الرابعة من عمره.. فلكلّ مرحلة أو فئة عمريّة، يناسبها نوع محدّد من القصص.
في هذا الصّدد تقدّم "مرجي" بعض النصائح للأهل، حول كيفيّة قراءة القصص واختيارها.
طبعا، في المستوى الأول النوع الهادف والتربوي الذي يحمل قيمًا أخلاقيّة، وأن يكون مراعيًا مستوى لغة القصة، والتي يُفترض أن يكون قادرًا على فهمها من حيث عدد الكلمات والمعاني التي أصبح قادرًا على فهمها وتكرارها والتعبير عن نفسه بها. إذ نلاحظ أنّ الطفل الصّغير يحبَّ فكرة الكتب وتقليب الأوراق، ويحبّ التكرار عكس الكبار. فنحن إذا قرأنا كتابًا مرّة، فمن الممكن ألا نقرأه مرّةً أخرى، لأننا حفظناه وعرفنا مضمونه، أمّا الطفل فيحب التكرار، وعندما تعيدين قراءة القصّة له يفرح بها أكثر ويتفاعل معها. والأهم هو الحماس الذي نعطيه للطفل في أثناء قراءة القصة، من حيث التفاعل في طريقة القراءة والأسلوب والقيام بحركات تتماهى والمضمون.. لأنّ÷ من خلال القراءة نحن نتواصل مع الطّفل.. وهذا هو التواصل اللفظي والتواصل الجسدي والتواصل الاجتماعي. كلّ هذه الأمور تنمو عند الطفل من خلال تواصله مع الراشدين من حوله، مع من يقدّم له الرعاية، مع الأم و الأب أو مع المدرسة أو مع الحضانة أو مع الأطفال الآخرين..
كما نلاحظ، أنّ الطفل في عمر السّنة، تفاعله سيكون أكثر بكثير. وهنا يبدأ بفهم موضوع الكتاب أيضًا، سيصبح قادرًا على فهم قلب الصّفحة مثلًا ، وسيصبح قادرًا على فهم الشّخصيّات الموجودة في القصّة. والأهم من هذا كلّه هو ضرورة مراقبة وملاحظة ميوله .. يعني ماذا يحب، إن وجدنا أنّه يحب الأسد أكثر أو الفيل أو الأرنب أو أيّ شخصيّة كرتونية معيّنة ...فهذا يعني أن تعرضوا له شخصيّات متمحورة حول حول هذه الشخصيّة المفضّلة.
الطفل، أحيانًا، يفرض علينا شيئًا جذبه إلى التلفاز؛ فنحن ندعه يشاهد الرسوم المتحركة يوميًا، والعديد من العائلات للأسف لا يدرون أي موضوعات وقيم غير مباشرة تقّدمها هذه الأفلام.. وأحيانًا أخرى يُسلّم الطفل الهاتف الذكي الموصول بالإنترنت كي يتلّهى به، حيث يبدأ باكتشاف عالم أخر بعيد أيضًا عن الكلمة والحرف الورقي .. لذلك من المهمّ على الأهل، في هذا الصدّد، اتباع الخطوات الآتية، وهي في غاية الأهميّة :
أولًا: نعم؛ من الممكن أن يساعد التلفاز من خلال مشاهدة الأفلام أو الرسوم المتحركة في تعليم طفلنا ألفاظًا لغويّة جديدة بما تحمله من معاني ومفاهيم..إنّما الخطورة هو أي ألفاظ هي؟ لذلك؛ اختيار القناة المحافظة والهادفة أمر أساسي.
ثانيًا: من المهم من وقت إلى آخر أن نكون إلى جانبه خلال المشاهدة، كي نركّز في ذهنه بعض الألفاظ وما تعنيه، خصوصًا إذا كانت تحمل قيمة أخلاقيّة أو اجتماعيّة.
ثالثًا: من المهم أن نراقب ما يشاهده من هذه الأفلام، فالأمر ليس متروكًا من حيث الوقت أو الاختيار..فحتى لو كانت القناة محترمة في الهدف والتقديم، إّنما هناك أهميّة لنوع الفيلم ومناسبته لعمره وقداراته الذهنية والتعلميّة.. فمثلاً؛ مشاهدة رسوم "سندباد" ليست مثل مشاهدة "سبونج بوب"؛ سندباد يتكلم عن مواضيع إنسانيّة، مع أنّه يوجد فيه كثير من الأساطير الخرافيّة، فلا يصحّ أن نترك ابن السّنة أو الثلاث سنوات يشاهد هذا النوع؛ لأنّه من الممكن جدًا أن يرتعب من وجود سحر وساحرة شريرة وضرب وعنف..وما إلى ذلك..
رابعًا: من المهّم للغاية تخصصين مدّة معيّنة لاستعمال الطفل للهاتف الذكي خلال النهار، ويجب أن يُمنع عنه في اللّيل... لأنّه في اللّيل يتنبّه الدّماغ بشكل كبير للضوء الصادر من الهاتف للراشد وللطفل معًا، وخصوصًا قبل وقت النوم، حيث لا يجب استخدام الهاتف لأنه يسبّب لصاحبه الأرق..بسبب الضوء ..
تضيف الدكتورة "مرجي" لنختم معها المقابلة، بأنّه يمكن للأهل أن يدمجوا بين الإفادة من العالم الافتراضي وبين الأنشطة الرياضيّة والذهنيّة لتنمية مهارات الطفل التعلميّة في اللغة واكتساب المعرفة وأسلوب الحياة، كلّ بحسب سنّه وقدراته.. مثلا: لعب الشطرنج، تركيب الليجو، الألعاب الّتي تُفك و تركّب، ألعاب فيها أحجيات، الرسم والتلوين، ألعاب رياضيّة مختلفة.. فيجب أن نوجد له، لينمّي عضلاته، أيضًا .. لأنّ أطفالنا اليوم أضحى لديهم ضمور بالعضل؛ بسبب تكريسهم الوقت الطويل لأجهزة العالم الافتراضي...
في الختام؛ من المهم القول إنّه ليس بمقدور جميع العائلات توفير ما يلزم لأطفالها من هذه الوسائل الحديثة، خصوصًا تأمسن مساحات للعب والرياضة، كما ليست كلّ الأهالي لديهم المستوى الثقافي الذي يؤهّلهم لحماية أولادهم من مخاطر الانترنت وعالمه الافتراضي، من هنا يفترض على الدولة، أولا، والمجتمع المحلي والجمعيات والمؤسسات التي تُعنى بالطفل والأسرة ثانيًا، أن تأخذ على عاتقها مسؤولية هذا الدور في التوعية والمواكبة، كي نخفف أكبر قدر ممكن من الأخطار المحدقة بأطفالنا؛ جيل المستقبل.
أجرى اللقاء : د. زينب الطّحان
يجب على الأم أن تهتم بكل خطوة تقوم بها مع طفلها في سنتي المهد، وما تحت سن ثلاث سنوات
يُعَدُّ العام الجديد فرصة جيدة لتعليم الأطفال كيفية تحديد أهدافهم،
اختاري العقاب المنساب للطفل، ولا تبالغي فيه لكي لا يرث الطفل حقدًا دفينًا على المجتمع من حوله وينعكس ذلك على تصرفاته،
2024 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال