في مقاله الذي نشره موقع أتلانتك (The Atlantic) الأميركي، قال "ستيفن ماركي"، الروائي الكندي ومؤلف كتاب "الحرب الأهلية القادمة"، إنّ أحد الأساتذة طلب من تلاميذه كتابة مقال بحثي (essay) حول موقفهم من أساليب التعلّم، فكتب له أحدهم ما يلي "يُعدّ بناء أنماط التعلّم إشكاليّة؛ لأنّه يفشل في حساب العمليّات التي تتشكّل بها أنماط التعلّم، فقد يطور بعض الطلاب أسلوبًا تعليميًا معينًا؛ لأنّهم خاضوا تجارب معيّنة، وقد يفعل الآخرون ذلك من خلال محاولة التكيّف مع بيئة التعلّم التي لم تكن مناسبة تمامًا لاحتياجات التعلّم الخاصة بهم. في النهاية، نحتاج إلى فهم التفاعلات بين أساليب التعلّم والعوامل البيئيّة والشخصيّة، وكيف تشكّل هذه الطريقة طريقة تعلمنا وأنواعه".
تساءل الكاتب عن الطريقة التي سيعتمدها هذا الأستاذ، لتقويم المقال ورصد الدّرجات المناسبة، في حال علم أنّ بعض الطلاب يستخدمون "جي بي تي 3 (GPT3) ، والذي هو نموذج لغوي يستخدم تقنيات التعلّم العميق لإنتاج نص شبيه بالنص البشري من تطوير شركة أوبن إيه آي (OpenAI) الأميركيّة.
كان هدف الأستاذ الذي طلب المقال البحثي (الجامعي) هو حثّ المتعلّمين على "إعادة التفكير في التدريس والتقويم" في ضوء التقدّم التكنولوجي الذي نشهده على مستوى عالمي، قائلا إنّها "يمكن أن تصبح أداة تساعد الطلاب على الغش، أو تكوين مساعد تدريس قوي، أو أداة للإبداع". وتجدر الإشارة إلى كثير من الطلاب لا يشعرون بالغش؛ لأنّ إرشادات الطلاب في جامعتهم تقضي بعدم السّماح لأي شخص آخر بقيام واجباتك الدراسيّة نيابة عنك، والتقنية الجديدة ليست "شخصًا آخر" بل هو برنامج.
يوضّح الكاتب أنّ أهميّة أداة المقال البحثي الذي كان الطريقة التي نعلّم بها الطلاب كيفيّة البحث والتفكير والكتابة، على وشك أن تتلاشى. فقد نشر "كيفن برايان"، الأستاذ المساعد في جامعة تورنتو، تغريدة على تويتر عبّر فيها عن دهشته من برنامج الدردشة الآلي الجديد لشركة "أوبن آي إيه" الأسبوع الماضي، قائلُا "لم يعد بإمكانك إعطاء اختبارات منزليّة وواجبات منزلية.. حتى في أسئلة محدّدة تتضمن الجمع بين المعرفة عبر المجالات، فإنّ روبوت شات "جي بي تي" هو بصراحة أفضل من طالب في مرحلة ماجستير إدارة الأعمال".
الثقافتان
يؤكد الكاتب أنّ المهندسين الذين يبنون هذه التكنولوجيا اللّغويّة والمعلّمين الذين يتلقونها غير مستعدّين لمواجهة تداعيات هذه التكنولوجيا على النظام التعليمي، مشيرًا إلى وجود فجوة بين ذوي النزعة الإنسانيّة وخبراء التكنولوجيا لمدة طويلة. ففي خمسينيات القرن الماضي، ألقى الروائي الإنجليزي "سي بي سنو" (1905- 1980) محاضرته الشهيرة "الثقافتان" واصفًا المجتمعات الإنسانيّة والعلمية بأنّهما يشبهان المجتمعات القبليّة التي تفقد الاتّصال مع بعضها البعض، وقال "المثقفون والأدباء في طرف، والعلماء في الطرف الآخر".
وأضاف "هناك هوّة بين الاثنين من عدم الفهم المتبادل -في بعض الأحيان- (خاصة بين الشباب) والعداء والكراهيّة. ولكنّ الأهم من ذلك كلّه الافتقار إلى التفاهم، فلديهم صورة مشوّهة غريبة عن بعضهم البعض". وكانت حجة "سنو" نداءً لنوع من الانفتاح العالمي الفكري: فالوسط الأدبي يجهل الأفكار الأساسيّة لقوانين الديناميكا الحراريّة، بينما كان العلماء يتجاهلون عظمة شكسبير وديكنز".
العلوم الإنسانية وعصر وسائل التواصل
ووفقاً للكاتب، كانت حالة الجهل غير الطبيعية بقضايا المجتمع والتاريخ -الذي أظهره الرجال والنساء الذين يعيدون تشكيل المجتمع والتاريخ- هي السّمة المميزة لعصر وسائل التواصل الاجتماعي. ويقول إنّ العلوم الإنسانيّة لم تغيّر نهجها بشكل جذري منذ عقود، على الرغم من أنّ التكنولوجيا غيّرت العالم بأسره من حولهم. ويتساءل: هل من المستغرب أن يندم ما يقرب من نصف خريجي العلوم الإنسانية على اختيارهم للتخصص؟
ويضيف الكاتب أنّ قضية قيمة العلوم الإنسانية في العالم التقني طُرحت من قبل، فقد نسب "ستيف جوبز" جزءًا كبيرًا من نجاح "آبل" إلى وقته في كلية ريد، حيث تعرّف إلى "شكسبير"، بالإضافة إلى فصل الخطوط الشهير الذي قدم الأساس الجمالي لتصميم "ماك". وقد عبّر "جوبز" عن ذلك بإشارته إلى أن تجربة الأفراد في صناعة التقنية غير متنوعة، ما يجعل حلولهم خطية للغاية من دون منظور أشمل للمشكلة، ويقول "كلّما كان فهمنا للتجربة البشرية أوسع كان لدينا التصميم الأفضل".
ورغم القيمة الواضحة للتعليم الإنساني؛ فإنّه يشهد تدهورًا مستمرًا، حيث انتصرت العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وانهارت العلوم الإنسانيّة على مدار السنين العشر الماضية، وأصبح عدد الطلاب المسجلّين في علوم الحاسوب الآن تقريبًا عددهم نقسه في جميع العلوم الإنسانيّة مجتمعة.
أتمتة المقال البحثي
الآن هناك برنامج "جي بي تي-3" الذي يأتي بسلسلة جديدة من المشاكل غير المسبوقة بمعالجته للغة الطبيعيّة للعلوم الإنسانيّة الأكاديميّة، حيث تقوّم أقسام العلوم الإنسانيّة طلابها الجامعيين على أساس مقالاتهم، وتمنحهم الدكتوراه على أساس قدرات تكوين الأطروحة، ما يطرح تساؤلًا حول ما الذي ستؤدي له أتمتة كلتا العمليتين.
أوضح الكاتب أنّ مواجهة هذا الواقع ستستغرق 10 سنوات من الأكاديميين، ما يضع المعلّمين -الذين هم من أكثر الفئات عملًا وأقلهم أجرًا في العالم- أمام أزمة في العلوم الإنسانيّة. ورغم كلّ ذلك؛ فإنّ تقنيات الذكاء الصناعي وتقنيات "معالجة اللغة الطبيعية" (تعلّم الآلة تفسير اللّغة البشرية ومعالجتها وفهمها) ستجبر المهندسين والإنسانيين على العمل معًا، حيث يحتاج علماء الحاسوب إلى تعليم أساسي ومنهجي في العلوم الإنسانيّة العامة. ففلسفة اللّغة وعلم الاجتماع والتاريخ والأخلاق لم تعد أسئلة مسلية للتكهنات النظرية، بل ستكون ضرورية في تحديد الاستخدام الأخلاقي والإبداعي لروبوتات المحادثة التي تغير واقعنا.
انتهى الكاتب إلى القول إنّ علماء الإنسانيّة يحتاجون إلى فهم تقنيات "معالجة اللّغة الطبيعيّة" لأنها مستقبل اللّغة، حيث يمكن أن تلقى هذه المعالجة الضوء على عدد كبير من المشكلات العلمية. وإن الارتباط بين النزعة الإنسانيّة والتكنولوجيا سيتطلّب أشخاصًا ومؤسسات ذات رؤية واسعة والتزام بالمصالح التي تتجاوز مجالهم، وسيتعيّن على الجانبين - التقنيين والباحثين في الإنسانيات- اتخاذ أصعب الخطوات، وهو فهم أنهم بحاجة إلى الجانب الآخر، والاعتراف بجهلهم الكبير.
المصدر : أتلانتك
بحسب الدراسة أظهرت نماذج الذكاء الاصطناعي أنها لا تتعلم بالفعل الحقائق الكامنة عن العالم
2024 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال