صرخة ألم..من سببها الأم أم التكنولوجيا؟

في هذا الفيديو صرخة عالية باتجاه الأهل والمربين. كيف تتركون أطفالكم لتربيهم "الهواتف الذكية"..ابني أصبح عنيفًا وعصبيًا..لم يكن هكذا من قبل؟؟؟ لماذا؟؟؟

النداء الذي تُطلقه هذه السّيدة بحرقة، والمشاعر التي تحاول التعبير عنها بغصّة، والحرص الواضح لحماية ابن صديقتها، والألم الذي تختزنه من وضعيّة هذا الطفل، يتوجه إلى كلّ شخص منا، مباشرة أو غير مباشر. فالقضيّة التي تُثيرها على قدر كبير من الأهمّية، خاصّة وأنّها أصبحت ظاهرة منتشرة، تكاد تخترق البيوت كلّهان وتطالنا جميعًا.

 

 

لكن بالرغم من خطورة ما تطرحه بصدق وألم، هل الحلّ الذي تقترحه بسحب "التلفونات و"آي باد" وغيرهما من الأطفال هو الحلّ الأنسب والأكثر فاعليّة لمعالجة هذه المشكلة؟  وهل صحيح أنّ الهاتف هو المسؤول "الوحيد" عن ما وصل إليه الطّفل من عصبية، وعنف....؟ هل المشكلة تقنيّة؟ أم أنها تعكس وضعيّة مجتمعيّة وتربويّة؟

كثيرة هي التساؤلات التي يطرحها "الفيديو" حول تعلّق الأطفال بالهواتف الذكيّة وغيره من "الألعاب" الإلكترونيّة؛ لدرجة أصبحت هذه الظاهرة أقرب لأن تكون نوعًا من "الإدمان" الذي يعتاده هذا الطفل أو ذاك، ويمارسه بشغف، وبتعلّق به بقوة.. فقد غدت هذه الظاهرة قضيّة تربويّة، وغير مرتبطة بأسرة واحدة فقط.

إزاء هذا الواقع، قد يكون من المفيد والضروري أن نفكر معًا في هذه المشكلة التي تُثيرها هذه السّيدة، ونناقش ما تقدّمت به، لعلّنا نصل إلى نقطة تلاقي حول ما طرحته، ونُعمّق التفكير في المشكلة من خلال وضعها في إطارها الأوسع، للحدّ من تداعياتها السلبيّة. لذلك؛ فإنّ مضمون الفيديو وما قالته السّيدة يطرح العديد من القضايا المشابكة والمتداخلة في الوقت نفسه، والتي تدخل في أسباب هذه المشكلة، لكن يمكن اختصارها، أو الإشارة إلى أبرزها على النحو الآتي:

  • أزمة مجتمعة: ما تقدّمت به السّيدة حول التأثير السّلبي للهاتف على الأطفال صحيح، من حيث المبدأ، ولا نقاش حوله أو فيه. غير أنّ الأزمة لم تعد محصورة بفئة عمريّة محدّدة، وإن أظهر الفيديو تأثيرها السّلبي على مرحلة الطفولة المبكرة. وهذا ما يجعل المشكلة أكثر خطورة؛ لأنّ هذا الاتّساع يحوّلها إلى مشكلة مجتمعيّة وقضيّة تربويّة، تحتاج إلى تظافر الجهود للحدّ من مخاطرها.
  • غياب الأم: إن غياب الأم، بشكل خاص، عن البيت له أسبابه، سواء في هذه الواقعة أو في غيرها. غير أنّ الغياب من دون تعيين الرّعاية البديلة للطفل خاصّةً، هو بحدّ ذاته أزمة. وهنا؛ لا نحاسب الأم أو نلومها من جهة، ولا ندعو إلى "حجز" الأم في البيت ومنعها من العمل والمشاركة في دعم الأسرة من جهة أخرى. ففي الواقعة التي يطرحها الفيديو لا نعرف أسباب هذا الغياب، بل نُثير قضية رعاية الأطفال في مثل هذه الوضعية. وقد بيّن الفيديو أنّ الأم اعتمدت على أفراد الأسرة (الأبّ والأخوة) لينوبوا عنها في الاهتمام بالطفل. لكنّهم لم يكونوا على قدر المسؤوليّة، بل لم يتحمّلوا الحدّ الأدنى من المسؤوليّة. وهذه الوضعية تُثير بحدّ ذاتها مسألة تربويّة على قدر من الأهميّة. وتطرح تساؤلات عن دور الأب والأخوة الأكبر، في الاهتمام ببعضهم البعض ومتابعة أوضاعهم، سواء بوجود الأم أم في غيابها، بشكل أخصّ.
  • الطفل مقلّد: الطفل في مراحل العمرية الأولى، سواء الطفولة المبكرة أو الوسطى أو المتأخرة. يتشبّه بالأكبر منه ويحاول تقليدهم. وهذه خصيصة ترافق مراحل النّمو عنده. غير أنّ بعض الأهل غير مقتنعين بهذه الفكرة، ويرون أنّ الطفل لا يعرف ما يدور حوله، ما يجعلهم غير مدركين لخطورة ما يقومون به أمام أطفالهم. وفي الوضعيّة التي يعرضها الفيديو، فالطّفل ابن الثلاث سنوات، يلاحظ ما يقوم به الأب والأخوة الأكبر سنًا، بشكل دائم ومستمرّ. إذ يقضمون السّاعات الطويلة مع الهاتف، الأمر الذي يجعله مقلدًا لهم، كأنّ المسألة أمر طبيعيّ. من هنا؛ ضرورة التفكير جيدًا، في سلوك الأهل والأخوة الأكبر، حتى يكونوا قدوة للصغار في العمر. وهذه الوضعيّة لا تنطبق على الهاتف فقط؛ بل تطال علاقة الأهل والأخوة ببعضهم البعض من جهة، وبتصرفاتهم من جهة ثانية.
  • العلاقات الأسربّة: إنّ الهاتف المحمول، كما تؤكد السّيدة في الفيديو، يبدو وكأنّه هو "الصديق" الأقرب للطفل من المحيطين به في الأسرة الواحدة، من أب وأخوة. غير أنّ هذه العلاقة الحميميّة بين الطفل والهاتف تعكس، وبشكل مباشر، خللًا واضحًا في العلاقة بين أفراد الأسرة. فالتواصل بين هؤلاء محدود. بمعنى آخر؛ إنّ العيش تحت سقف واحد هو حكمًا يوفر نوعًا من التواصل لتسير شؤون الحياة اليومية. لكنّ هذا النمط من العلاقات يبقى شكليًا، إذا لم يستطع الأهل، بالدرجة الأولى، تعزيز هذا التواصل يوميًا بالحوار والنقاش والتساؤل.... حتى لا يتحوّل البيت إلى "فندق". صحيح أن الطفل أبن الثلاث سنوات لا ينطبق عليه هذا التوصيف، لكن إهماله، أو عدم الانتباه إليه، مؤشر على أنّ العلاقات الأسرية "متراخية" جدًا، وأفرادها غير متفاعلين فيما بينهم. من هنا يمكن القول: وبكل دقة، إن إضطراب العلاقات بين أفراد الأسرة، أو تراخي هذه العلاقة، تدفع كلّ فرد فيها، إلى البحث عن بديل لتعويض هذا الاختلال.  وفي كثير من الأوقات، يعتمد بعض الأهل إلى إعطاء أطفالهم لعبة معيّنة لإلهائهم. ويبدو أنّ الهاتف المحمول، بما يُختزنه وسيلة جاذبة للإلهاء.  وهنا تقع المسؤولية على الأهل، قبل أن نحيل المشكلة إلى الهاتف.
  • ألعاب بديلة: إنّ تسليم الطفل الهاتف المحمول لـ "لتعويض" عن غياب الأب أو الأم، بالدرجة الأولى، يُلغي فكرة وجود ألعاب بديلة متوفرة، بدرجة أو أخرى، في متناول الأهل. ويبدو أّن انتشار الهاتف المحمول بهذه الكثافة والاتساع، قد يجعله اللّعبة الأسهل والأكثر توفرًا. وهنا ننسى للحظة النتائج التي سنصل إلها، وهي في الغالب الأعم، سلبيّة. كما أشارت السّيدة في الفيديو. من هنا ضرورة التفكير في ألعاب بديلة، لتمضية أوقات الفراغ التي كانت متوفرة قبل الهاتف المحمول، كما هي متوفرة بوجوده.

 

رؤية حول الحلّ

  بناءً على ما تقدّم، هل يمكن التسليم بالحلّ الذي قدّمته السّيدة في الفيديو والمتثل في "سحب التلفونات من الأطفال" و"سحب الشاشات من الأطفال"؟ من الواضح أنّ الحلّ الذي قدمته السّيدة نابع من حرصها على طفل رفيقتها، وعلى الأطفال كافّة، وخوفها عل صحتهم. وهي تعبّر عن مشاعر إنسانية راقية من دون أدنى شكّ؛ خاصّة وهي تشير إلى أنّ التعرّض لوقت طويل "للأشعة"، سيكون له تأثيرات سلبية على "قشرة الدماغ"، لجهة "لتخطيط والتنظيم وإتخاذ القرارات والتحكّم بالتصرفات، وعلى "العواطف" .....الخ. لكن هل يمكن، رغم كلّ ما قالته، القبول بهذا الحلّ؟

إنّ القرارات السّريعة تبدو مضرّة، كما هي مضرّة تمضية السّاعات الطويلة على الهاتف المحمول، كما على غيره من الألعاب. لأنّ كلّ شيء زاد عن حده، ستكون نتائجه غير سويّة. كما أنّ سحب الهواتف والشّاشات على أنواعها من الأطفال يبدو وكأنّه "سحب" تواصل الأطفال عن التكنولوجيا ومستجداتها. وذلك؛ لأنّ الحلّ المقترح من السّيدة يطرح العلاقة بين الطفل والتكنولوجيا. وهذا موضوع قائم بذاته. فهل الهاتف أو غيره من الوسائل التنكنولوجيا كلّه يحمل ضررًا؟  وهل لا يُتنتج عن هذا الاستخدام إلا الضرّر والنتائج السلبيّة؟

نعتقد أنّ شدة الحرص على الأطفال، وصولًا إلى سحب الهاتف سيكون قرارًا غير حكيم. لماذا؟ لأنّه يبدو قرارًا متسرعًا من جهة، ويتجاهل العديد من القضايا التي أثيرت ولُفت النظر إليها من جهة ثانية، ويستسهل تحديد الخلل ويحصره في الهاتف فقط من جهة ثالثة، ويترك الطفل في أزمته من جهة رابعة، ويتعامى عن واقع الأسرة ومعرفة أوضاعها من جهة خامسة، ويقطع العلاقة بين الطفل/ الأطفال والتتكنولوجيا من جهة سادسة.

لذلك قد يكون من الأفضل التفكير في الأسباب الإضافيّة، أو المحتملة الأخرى التي أوصلت الطفل أبن الثلاث سنوات لما هو عليه من توتر وعصبيّة وعنف....الخ. مع الإشارة إلى في النهاية إلى أمرين: الأول، إنّ سوء استخدام أي لعبة هو بحدّ ذاته مُضرًأ. والثاني هو أنّ مرحلة الطفولة المبكرة لها خصائصها الخاصة، والتي علينا - الأهل والراشدون- أن نحترمها وندركها بدقة.

 

 

المصدر:  شوكت اشتي/ موقع أمان الأطفال

 

مواضيع مرتبطة

إستراتيجيات لغرس قيم التسامح والاحترام عند الأطفال مبكرًا

اختاري العقاب المنساب للطفل، ولا تبالغي فيه لكي لا يرث الطفل حقدًا دفينًا على المجتمع من حوله وينعكس ذلك على تصرفاته،

التعليم في أوقات الحرب: شريان حياة وسط مخاطر محتملة

يتعرّض الأطفال في أثناء الحروب للصدمة، وقد لا يكونون متحفّزين للتعلّم، لذلك تدمج المدارس والبرامج التعليمية خدمات الدعم النفسي والاجتماعي

لماذا يتصرف الأطفال بشكل أفضل في وجود الأب؟

تأثير الأب على الطفل يفوق تأثير الأم بل يصل إلى حد تغيير سلوكهم بشكل ملحوظ 

كلمات مفتاحية

إرشادات_اجتماعية