قفزت منصّات التواصل الاجتماعي إلى مركز حياة المستخدمين في 2023. ظهر ذلك بشكل جلي في الحرب الروسية الأوكرانية العام 2022، وتثبّت خلال حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يمارسها كيان الاحتلال ضد غزة منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. أسباب ذلك كثيرة، لكنّ أهمها هجرة جيل الشباب (الجيل Z) قنوات الإعلام السائدة، وبحثه عن الحقيقة بمفرده بعيدًا من السرديات الإعلامية. أضف إلى ذلك أنّ العالم «أعاد اكتشاف الفيديو»، وبرزت شعبية حسابات الاستخبارات المفتوحة المصدر OSINT. كل ذلك أتى مع تعاظم دور تطبيقات مثل تيك توك وX.
تجلى الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في عصر الديجيتال على المنصّات كافةً. نجح النشطاء في مشاركة القصص الحقيقية، بما في ذلك حسابا «تايمز أوف غزة» و«عين على فلسطين» اللذان جذبا الاهتمام الدولي، مع انتشار هاشتاغات مثل #FreePalestine. لكن التحديات ما تزال قائمة بسبب الإشراف المتحيز على المحتوى، والضغط على شركات التواصل الاجتماعي لفرض رقابة على محتواها. أدى النفوذ الإسرائيلي إلى إزالة المحتوى المؤيد للفلسطينيين. وفقًا لمؤشر العنف على منصّات التواصل، رصدت منظمة «حملة» الفلسطينية، أكثر من 493 ألف محتوى تدعو إلى الكراهية ضد الفلسطينيين والمدافعين عن حقوق الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي في 7 تشرين الأول 2023 وحده.
السياق الزمني لخسارة كيان الاحتلال سرديّته على منصّات التواصل لافتة. خلال عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي، وانتشار فيديوات القسّام وتناقلها وإعادة تغريدها بين الحسابات العربية على X (تويتر سابقًا)، كانت تجري عملية موازية من قبل حسابات إسرائيلية وأخرى غربية تعمل على نشر الشائعات والفبركات الشنيعة والإعلانات على منصّات التواصل الموجهة إلى الجمهور الغربي. وفي حين كان الجمهور العربي يحتفل بالإنجاز غير المسبوق، كانت «إسرائيل» تجيّش الجمهور الغربي عبر الروايات المضللة مثل كذبة «قطع رؤوس 40 طفلًا» وعمليات الاغتصاب وحرق الأولاد داخل الأفران. تهليل عربي قابله سخط غربي. تصادمت السرديتان على منصّات التواصل. بالنسبة إلى الجمهور العربي والفلسطيني،
لم يكن مفاجئًا أن يقف الغرب مع الاحتلال وترداد العبارة المضحكة «يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها». لكن بالنسبة إلى الجمهور الغربي، كان الأمر مفاجئًا، فهو لم يفهم «كيف يحتفل هؤلاء بقتل الأطفال والاغتصاب وحرق العائلات». وبالرغم من القصف الوحشي الإسرائيلي للمدنيين في غزة، استمرّ المزاج الغربي على هذه الحال لمدة عشرة أيام، إلى أن استهدف العدو «مستشفى المعمداني» في 17 تشرين الأول الماضي. هنا تغيّر كل شيء. انهدمت السردية الإسرائيلية في عقل الجمهور الغربي. لقد شاهد قوات الاحتلال تقصف مدنيين يحتمون في باحة مستشفى، وانعكس ذلك تحوّلًا في الخطاب على منصّات التواصل الاجتماعي.
في تقرير نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وجد أنّ وسم #freepalestine على فايسبوك، حضر في أكثر من 11 مليون مشاركة، أي أكثر بـ 39 مرة من الوسوم التي تحتوي على #standwithisrael. وعلى إنستغرام، وُجد الهاشتاغ المؤيد للفلسطينيين في ستة ملايين مشاركة، أي أكثر بـ 26 مرة من الهاشتاغ المؤيد لإسرائيل. وبين 13 تشرين الأول و13 تشرين الثاني الماضي، أي خلال ثلاثين يومًا، حصدت مقاطع الفيديو التي تحمل الوسوم #إسرائيل و#فلسطين نحو 2 مليار مشاهدة حول العالم. على تيك توك، أكّد تقرير نشره موقع vice في 23 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أن هاشتاغ #freepalestine حصد أكثر من 30 مليار مشاهدة حول العالم. وفي الولايات المتحدة، ظهر وسم #freepalestine على 233 ألف مشاركة، أي أكثر بـ 38 مرة من مقاطع الفيديو الموسومة بـ #standwithisrael، أي إنّ تأييد فلسطين كان أعلى بأضعاف على منصّات تواصل غربية وصينية. وقد لفتت «واشنطن بوست» إلى هذا الأمر، مظهرةً كيف أنّ هذه الأرقام قوّضت السردية في واشنطن التي تروّج لفكرة أنّ الحكومة الصينية تتلاعب بخوارزمية تيك توك للعب دور مؤيد للفلسطينيين وأنه يجب حظره على مستوى البلاد.
في مواجهة تعاظم الصوت المؤيد للشعب الفلسطيني على منصّات التواصل، فعّل كيان الاحتلال أدواته، ومارس الضغوط وأنشأ غرفة عمليات في وزارة الخارجية الإسرائيلية يديرها رئيس القسم الرقمي في الوزارة، ديفيد سارانغا، الخبير في تلميع صورة كيان الاحتلال حول العالم. بعد يومين على عملية «طوفان الأقصى»، بعث المفوض الأوروبي للسوق الداخلية، تييري بريتون، رسائل إلى مالك X (تويتر سابقًا) إيلون ماسك، ومؤسس «ميتا» مارك زاكربيرغ، يحثهما فيها على مكافحة «المعلومات المضلّلة» في محاولة لقمع الصوت الفلسطيني بدعوى مكافحة الأخبار الزائفة. وكعادته، امتثل زاكربيرغ للأوامر، لكن الملياردير الجنوب أفريقي لم يعر اهتمامًا للرسالة، فهو المستفيد من لجوء الناس إلى X، ما رفع من حجم استخدام المنصّة حول العالم بعدما كانت تعاني تضييقًأ وحصارًا من المعلنين بسبب مواقف ماسك المؤيدة لأقطاب اليمين داخل الولايات المتحدة.
أمام ضغوط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي و«إسرائيل» لإزالة المحتوى الذي يُزعم أنه يحتوي على معلومات مضللة أو كراهية، امتثلت ميتا وتيك توك بأغلبية ساحقة. واعتبارًا من 5 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أعلن تطبيق تيك توك أنه أزال أكثر من 925 ألف مقطع فيديو وأغلق أكثر من 14 ألف بث مباشر مؤيد لفلسطين. وقد ارتفعت الأرقام منذ ذلك الحين كثيرًا.
في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حلّ إيلون ماسك ضيفًا على Lex Fridman Podcast الشهير (حلقة رقم 400). تحدث الملياردير المهووس بالفضاء واستعمار المريخ عن شتى المواضيع من بينها الحرب الإسرائيلية على غزة. وكان لافتًا قوله «إذا قتلت طفلًا في غزة، فقد خلقت على الأقل عددًا من أعضاء «حماس». وإذا كان هدف الصراع هو إحلال السلام، يتعيّن على إسرائيل أن تسأل نفسها: هل يتم خلق عدد أكبر أو أقل من الإرهابيين؟» .
هذا الموقف الذي يتماهى جزئيًا مع تطلعات الشباب الغربي تجاه فلسطين، سرعان ما تبدل بعد زيارة ماسك إلى كيان الاحتلال في 27 تشرين الثاني، بعد سحب كبار المعلنين أموالهم من X بسبب تغريدة له وصفت بـ«معادية للسامية». جال الملياردير الجنوب أفريقي في مستعمرات غلاف غزة مع رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، والتقى برئيس كيان الاحتلال، إسحاق هرتسوغ، ليخرج بعدها بقناعة جديدة تتمثل في الحاجة إلى تدمير «حماس» وحتميّة سقوط ضحايا من المدنيين. كما اتفق مع قادة الاحتلال على وجوب «تغيير نظام التعليم في غزة، كي يأتي جيل جديد لا يكون من القتلة» . كان لافتًا، بعد الزيارة، اختفاء فيديوات عملية «طوفان الأقصى» عن المنصة التي يملكها ماسك، كما تحدث العديد من المستخدمين عن تضاؤل حجم انتشار محتواهم المؤيد لفلسطين على المنصة.
في 2 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، تقريرًا كشفت فيه عن دور تؤديه وزارة الخارجية الإسرائيلية لمواجهة مناصري فلسطين على منصّات التواصل. أجرت الصحيفة مقابلة مع مدير القسم الرقمي في الوزارة، ديفيد سارانغا، الذي قال إن الهدف الأساسي للقسم لا يكمن فقط في «مكافحة المعلومات الخاطئة» لكن أيضًا في الوصول إلى جماهير متنوعة في العالم، وإيصال وجهة نظر «إسرائيل» بشأن الوضع الحالي. وأوضح أنّ منصّات مثل X وتيك توك وفايسبوك وإنستغرام ولينكد من أهم الأدوات في هذه الترسانة الرقمية التي جنّدها لمواجهة الخطاب الفلسطيني. وأضاف أنّ «المعركة اليوم ليست فقط على الأرض في غزة» كما تحدث عن تجنيد المؤثرين على تلك المنصّات الذين يتركّز عملهم على الأفراد الذين لا يملكون خلفية معرفية عن الصراع، بالتالي يسهل استمالتهم وجعلهم ينشرون محتوى مؤيدًا لكيان الاحتلال.
وقبل أيام، نشرت «جيروزاليم بوست» مقال رأي يتحدث عن آخر أحوال كيان الاحتلال في الساحات الرقمية ومنصّات التواصل. أكّد المقال أنّ وضع الكيان على المنصّات ليس جيدًا. واستفاض الكاتب، إيفان نيرمان، الذي بدأ حياته المهنية في «لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية ـــ إيباك» AIPAC، بأنه «حتى عندما يتوقف إطلاق النار، ينبغي لـ «إسرائيل» وضع خطة لإعادة تصور نهجها في العلاقات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي». وأضاف أن استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة أظهرت تراجعًا مقلقًا في دعم الأميركيين لإسرائيل، مع تزايد التعاطف مع الفلسطينيين. وما أثار صدمته، وفقًا للبيانات التي طلبها «المعهد الانتخابي اليهودي» ذو الميول اليسارية في 2021، أن «ما يقرب من 35% من اليهود الأميركيين يعتقدون أن معاملة إسرائيل للفلسطينيين تشبه العنصرية في الولايات المتحدة» مع موافقة 25% على أن «إسرائيل دولة فصل عنصري». كما تحدث نيرمان بقلق عن تعاطف الجيل Z مع فلسطين أكثر بأشواط من الأجيال السابقة.
ولمكافحة غياب الدعم لإسرائيل، بحسب إيفان نيرمان، يتعين على حكومة «إسرائيل» والمجتمع الأوسع من أنصارها في العالم أن يبذلوا جهودًا «لكسب قلوب وعقول الأجيال الشابة». لا يتضمن ذلك الدفاع عن تصرفات «إسرائيل» في أوقات الحرب فقط، بل يشمل أيضًا «تركيز السرد على إخلاص إسرائيل للسلام والسعي إلى التعايش مع جيرانها» ومواصلة وصم المقاومين بالإرهابيين. ولتحقيق ذلك، دعا نيرمان إلى «الإفادة من قوة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصّات الرقمية». عبر القيام بذلك، «ستضمن إسرائيل وصول رسائلها إلى الجماهير المناسبة؛ ليس فقط الحلفاء الحاليين، بل القادة وصناع القرار في الغد، الذين سيتمتعون بالقدرة على التأثير على الدعم العالمي لإسرائيل».
ماذا يعني ذلك كله؟ أولًا، إنّه إقرار إسرائيلي بالهزيمة على منصّات التواصل بالبرغم من كل الضغوط التي مارسوها. ثانيًا، يعلم الاحتلال أن الأهمية تكمن في استمالة الشباب، ولهذا تتحدث نخبهم عن خطط استراتيجية لاستمالتهم رقميًا. ثالثًا، هذه دعوة صريحة إلى شعب المقاومة، وإلى كل حرّ في هذه الأرض، بأنّه لا يجب أن تتوقف جبهة منصّات التواصل الاجتماعي.
الحرب هي على الجيل Z. حرب يجب أن تُستعمل فيها كل الأدوات التي يفهمها هذا الجيل للدفاع عنه في وجه آلة الكذب والفبركات التي تتحضر منذ الآن بحقّه. الحديث هنا عن مواد بصرية تُنشر بشكل دائم، فيديوات قصيرة وأخرى طويلة موسعة، MEMEs، صور بصيغة GIF، نشر الأحداث بسياقها الزمني عبر نماذج بصرية. هذا جيل وُلد في عالم مترابط ومتشابك عبر عالم الأصفار والآحاد، بالتالي لا يمكن لمن يخاطبه أن يكون من جيل أكبر منه. هم في طبعهم ونشأتهم رافضون للأنظمة والمؤسسات حتى إنّهم يريدون تغيير مفهوم العمل. انتهى الزمن الذي تُستعمل فيه منصّات التواصل لنشر صورة مائدة طعام أو صورة شخصية أو رابط إخباري. العالم صار بصريًا رقميًا، وهويتنا الرقمية هي منصّات التواصل بشكلها الحالي، إلى حين الانتهاء من بناء الميتافيرس.
نقلًا عن جريدة الأخبار اللبانية
تواجه شركة آبل دعوى قضائية جماعية جديدة تتهمها بالإعلان عن جهاز شائع لديها بشكل مضلل
بث الشائعات والابتزاز الإلكتروني والسب والقذف والاعتداء على قيم المجتمع من خلال هذه الحسابات الوهمية
الغرامة التي أعلن عنها هي سابع أكبر غرامة يفرضها الاتحاد الأوروبي على الإطلاق
2024 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال