خاص "أمان الأطفال"/ د. زينب الطّحان
حين كنتُ معلّمة، في إحدى الثانويات الخاصة بالبنات، لطالما رافقني التوتر إلى درجة أنّي كنت أتناول أحيانًا حبوبًا مهدئة للأعصاب ليلًا لتساعدني كي أنام..السبب، وبكل بساطة، هو أنّ الطالبات العزيزات كنّا لا يغلقن هواتفهن خلال الحصّة الدرّاسيّة.. ولأنّه، أيضًا ، بكل بساطة، كانت هذه الثانوية ترفض طلب المعلّمات بإصدار قرار يمنع الطالبات من استخدام الهاتف المحمول؛ خصوصًا وهنّ يتلقيّن حصصهن التعليميّة.
هو عام واحد، وتركت التدريس الخاص إلى غير رجعة، عندما شاهدت فيديو تعبيريًا لطفل مربوط بهاتفه المحمول يغريه بشتّى الأساليب ليبقى مربوطًا به يجرّه خلفه مثل "جرو صغير"، تذكّرت أي استعباد هو كانت تعيشه تلك الطالبات..استعباد نعم هو كذلك..!
إذا لاحظت معي؛ عزيزي القارئ؛ أنّ الحبل الذي يربط الطفل بالهاتف الذكي؛ يحمل دلالة أو لنقل إشارة رمزية توحي بهذا الاستعباد الكلّي؛ حيث يغري الطفل بعدم الالتفات إلى أي شيء يقع فيه أو يحدث من حوله..هو إغراء، تأتي أدواته من عالم الطفولة..حيث يحبّ الأطفال الشوكولا والحلوى والفواكه والألعاب وكلّ ما يثير فيهم الفرح والبهجة، ويسلّيهم...هو يلهث مثل جرو كلب خلف صاحبه لينعم عليه ببعض فتات من متعة الحياة أو ليشعره بذاته..شعور وهمي ومتعة وهميّة..هي عبوديّة خالصة؛ وإن كان تعريف العبوديّة الأساس أنّها امتلاك الإنسان للإنسان؛ حين يُباع الآدميون، ويُسخّرون لأعمال شتى في خدمة السّيد الغني؛ ومحظوظ من يخدم في القصر أو حديقته، حيث يمكن أن يتنعّم بشيء من رفاهية مزيفة...
الآن؛ أرى أنّ للعبودية تعريفًا آخر؛ يجعلنا نترحّم على أشكال العبوديّة التي شهدتها العصور الماضية..فما معنى أن ترى طفلك مركونًا طوال ليله ونهاره إلى جهاز من صنع الإنسان، يرميه بشتى ألوان الوهم والعبثيّة والقصص الوهميّة ..لا طائل منها إلا مضيعة للوقت- في معظمها طبعًا- حين ينعدم دور الأهل في المتابعة والإشراف والتدقيق والتمحيص..
في هذا الفيديو؛ يعود الطفل إلى رشده بفضل والديه، واللذين ما انفكّا يرسلان إليه رسائلهما المتواصلة، حيث يرشقانه بالفواكه حينًا والألعاب حينًا آخر؛ فينتبه إليهما، وهما واقفان في أعلى شجرة يبنيان بيتًا جميلًا ..يُلاحظ أنّ الوالدين قد استخدما أساليب الهاتف الذكي نفسه كي يجذبان الطفل إليهما..مع أنّهما هما المسؤولان في المستوى الأول عن هذا الإدمان أو الاستعباد الذي وقع فيه الطفل سابقًا.. ولكن هما بذلا مجهودًا على ما يبدو كبيرًا لإعادة ولدهما إلى مرتع بيتهما وإلى طفولته الحقيقية في عالم حقيقي.. حيث يكبر ويتعرّف إلى الحياة بألوانها كما هي في الواقع، لا كما يصوّرها له هاتفه الذكي..
إن كنّا نريد لطفلنا ألا يعيش هذا الاستلاب العقلي والذهني والعاطفي إزاء أدوات العصر الرقمي، وما فيه من ذكاء اصطناعي، فدورنا يبدأ مذ يفتح عينيه على هذه الدنيا..إذ إنّ تهاون الأم في إعطاء طفلها أو رضيعها هاتفها الذكي ليلتهّى به كي تنهي عملها أو لتتفرغ لاستقبال ضيوفها، هو الدّرب الأول الذي يبني ذلك الجسر/الحبل الرابط بين الفتى وهاتفه- كما رأينا في الفيلم- فبتصرفها هذا تكون هي من يرمي به إلى براثن العبوديّة، ثم العناد والعدوانيّة والعنف والتصلّب بالرأي والأنانية وحتى النرجسيّة..فأي إنسان تكون قد بنت وكبّرت؟!!
إننا دومًا من حين إلى آخر نقرأ نتائج دراسات تعطي بالأرقام عن واقع مؤلم للغاية؛ هناك اثنان من ثلاثة أطفال رضّع يتعرضون لشاشات الهواتف الذكيّة، وأربعة من كل خمسة أطفال عندهم أيباد ومثيله يستخدمونها يوميًا. وتقريبا 16 بالمئة من الأطفال ممن هم بعمر ثلاثة شهور صاروا على تماس مع هذه الأجهزة الإلكترونيّة الذكيّة وتطبيقاتها، لمدة تتجاوز ثلاث ساعات يوميًا؛ وهذا نقلاً عن دراسات كنديّة وأميركيّة حديثة جدًا. ومن النتائج التي صارت مثبتة؛ هي موضوع البدانة ومشكلات النوم والقلق الليلي؛ خصوصًا عند محبّي الألعاب الإلكترونيّة..عندما يشاهدون هذه الأفلام ويمارسون هذه الألعاب في غرفهم الخاصة بعيدًا عن رقابة الأهل..
الفيلم يقول لكم بكل بساطة، أنتم الأهل يجب أن تكونوا عالم الطفل ومحيطه؛ لا تجعلوا أي دخيل، مهما كان بريقه لامعًا من مشاركتكم في تربيته وتنميته وتعليمه وتثقيفه..
طفلكم أمانة في أعناقكم تسألون عنها يوم القيامة؛ وهي مصدر سعادتكم في الدنيا والآخرة؛ إن أحسنتم تنشئتها كما يحب الله ويرضى..
الأمر يحتاج منّا إلى إعادة ترتيب حياتنا، لنجعل محيط أسرتنا عالمًا يحبّه الطفل ويشعره بالاكتفاء والثقة والحبّ..وهو عالم يبدأ عندما يكون الوالدين أنفسهما أو أحدهما غير مستعبد لهاتفه الذكي..!
في الختام، أوجّه تحية تقدير إلى صانع هذا الفيديو لملاحظاته الدقيقة ورسالته الشفافة غير المباشرة، فهو يقول الكثير في هذا الفيديو القصير جدًا.. لعلّنا نعتبر ونتعظ ونحمي أولادنا للمستقبل.. فأي جيل نريد؟ مستعبد أم حرّ؟ ..
يعمد العدو إلى وسائل تكنولوجية متطورة لاختراق أجهزتنا الذكية وصفحاتنا الاجتماعية ليترصّد أي معلومة قد تفيده
يعمد العدو إلى وسائل تكنولوجية متطورة لاختراق أجهزتنا الذكية وصفحاتنا الاجتماعية ليترصّد أي معلومة قد تفيده
لماذا نترك المنصّات العالمية لمواقع التواصل لاجتماعي تتحكّم بمنشوراتنا..ألا يمكننا في العالم العربي صنع منصاتنا الخاصة؟
2024 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال