«شعر الذئب بالغضب الشديد، لدرجة أنه قفز إلى سطح بيت الخنزير الصغير وبدأ في النزول عبر المدخنة. وعندما رأى براوني ذلك، أشعل على الفور نارًا كبيرة في المدفأة ووضع فوقها الوعاء النحاسي المليء بمياه مغلية. وما إن وصل الذئب إلى أسفل المدخنة حتى قام براوني الصغير برفع غطاء الوعاء ليسقط الذئب في وسطه.
هكذا تمكّن براوني الصغير من إيقاع الذئب في الوعاء المليء بالمياه المغلية، ليسارع بعدها إلى إنقاذ أخويه وايتي وبلاكي من بيت الذئب وسط الغابة حيث كان يحتجزهما. وعاشوا بعدها معًا في هذا البيت الصغير المبني من الطوب في سعادة غامرة إلى الأبد. توتة توتة».
«الخنازير الثلاثة الصّغيرة» واحدةٌ من القصص العالمية التي أقرؤها لطفلي عادةً، حتى أبقيه على اطلاع بكلاسيكيات أدب الطفل العالمي.
■ ■ ■
عقّبَ طفلي على القصة: «لو أن براوني، الخنزير الثالث، استسلم للذئب، لكان الآن في معدته، مع أخويه، ولاستولى الذئب على بيته الواسع الفسيح المبني من الطوب القوي، وهو يغني يا ليل يا عين، سقف بيتي من حديد، ركن بيتي من حجر».
ضحكتُ وضحكتُ على هذه المفارقة اللامعة، التي طرحها صغيري للتو. نعم، هذه هي الكوميديا الساخرة.
- أمي، ألهذه الدّرجة الأمر معقّد؟ أن ينكرَ العالم حقّنا كبشرٍ بالمقاومة؟ مثلًا، أنظري، حتى الخنزير في قصصهم يقاوم الذئب! لقد استخدم كلّ أنواع الحيل معه، ولم ينفع. في النهاية كان عليه أن يقاوم بطريقته. اضطر أن يغليه في الماء الساخن.
حضنتهُ. احتضنتُ فيه المنطق السليم البسيط، الذي تولد عليه جميع مخلوقات الأرض، في كلّ زمان ومكان: حقّ المقاومة.
أخبرتهُ عن رجالٍ «عبروا الجسر خفافًا». عن الذين «وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان، وحدن بيقطفوا وراق الزمان. وبسكروا الغابة».
حدّثتهُ عن الرّجال الذين أُلهموا الحقيقة الواحدة: الاستكبار يقابله السلاح، ولا تنازل. لم تجمعهم الطوائف ولا المذاهب، إنما جمعتهم العزّة والكرامة، وبندقية في وجه الذئاب الآتية إلى الشرق، إلى بلاد الشام ابتداءً... ثمّ، حينَ غلّفت غمامة الأنس وجه طفلي الصّغير، أخبرته عن رجلٍ قُدّر له أن توضع الشّمس في يمينه، والقمر في يساره، على أن يتوب عن المقاومة، على أن يرمي السلاح، أن يعيش في القصور مع حوارييه، آمنًا، سالمًا، مُنّعمًا، لكنه وقف وقفته الشهيرة، رفع سبابته، صدح صوت القرآن الكريم من حنجرة الروح فيه:
{ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ}
◇ آل عمران/173
حتى الرمق الأخير الأخير بقي يقاوم، حتى آخر ٨٣ طنًّا أُلقيت عليه من الطائرات الحربية، لتغتاله في غرفة العمليات العسكرية، حيث كان يدير معركة شرسة قاسية.
ابتسمَ طفلي. أضاء في عينيه قمر صغير:
- لقد بكيتِه يا أمي. لكنك قلت إنك لم تبكيه بعد. كنت تنتقدين أمورًا يقولها، وأشياء خاضها. كنت تنتقدينه بدقة، لكنّك أحببته.
- ومن لا يحبّ النّجباء الصادقين يا ابن قلبي؟
صحيح، أنت تعرفني جيّدًا، لستُ ممّن يقدّسُ أحدًا. وهكذا علّمتك؛ أن تكون حرًّا من الانتماء لعاطفة غير واعية. العقل، حَكَم السّجالات والمواقف، وبسبب هذا العقل نفسه، أنتمي للمقاومة. أنتمي للمقاومة أينما وجدت في قلبٍ ثائرٍ مخلص، وفي أيّ بقعة من بقاع الأرض تنبلج فيها. لم أنجرف يومًا لتيّار. كان لديّ دائمًا عقلي الباحث.
- أخبركَ سرًّا؟ ليس سرًّا بالمعنى الحرفي، بل أمور يعرفها البعض..
- التقيتُ به حوالي اثنتي عشرة مرة.
- التقيتِ السيد شخصيًا؟
- صحيح. كانت معظم هذه اللقاءات في طفولتي..
سأحكي لك عن لقاء واحد، واحد فقط، وقد كان كفيلًا بأن أحترم هذا الإنسان حتى آخر العمر.
أنت تعرف يا بني، أنني كنت فردًا في الكورال الخاص بمدرستي.
في إحدى الأمسيات التي أقيمت في شهر رمضان المبارك، والتي تخللها إفطار لدعم الأيتام، دعينا للمشاركة في فقرة إنشادية. كنا أطفالًا، وعلمنا أنه سيأتي، قالت لي صديقتي ممازحةً: سيحضر «الكبير أوي»! يعني أن المائدة ستمتلئ بما لذّ وطاب، وضحكنا معًا. طوال مشوارنا من الجنوب إلى بيروت، كنا نتخيل مشاهد الأبهة والفخامة التي سنلاقيها، بما أنّ السيد سيكون حاضرًا.
وصلنا قبل أذان المغرب بثلاث ساعات، ماذا سنفعل؟ أنهينا بروتوكولات البروفات. هناك ملعب كبير، إذًا فلنلعب! وهكذا بدأنا اللعب. قبيل المغرب بساعة تقريبًا، سيارتان رباعيتا الدفع، عاديتان، نوافذ سوداء، تهبطان في الملعب، دقائق قليلة، تتبعها سيارة صغيرة متواضعة جدًا، بل أكثر من جدًا، يترجّل منها سماحته بعمّته السوداء. حسنًا نحن أطفال، ولكن وبسبب خلفيتي البرجوازية، تيبستُ اندهاشًا لثوانٍ، هزّتني صديقتي قليلًا: ما بك؟ قلت لها بعفوية: كيف له أن يقبل وهو السيد أن يركب في سيارة تعيسة إلى هذه الدرجة؟ ضحكت صديقتي قالت معك حق، لو أنهم وضعوا في رأسي مسدسًا لكان الأمر أسهل وأفضل من أن أطلع في مثل هذه السيارة، "المكركعة" أردفت. الطرفة أنّ موديل السيارة نفسها، أصبحت بعد ذلك أول سيارة أقتنيها مع خطيبي.
قبل الأذان، أدى كل منا فقرات، صلينا، دخلنا صالة الإفطار، وعندما رأينا المائدة، نظرت صديقتي إليّ، لم تستطع أن تكبت ضحكتها: لو أنني أفطرت على طعام البيت لكان أفضل. قرصتها: النمر** هنا، يراقب كل شيء، عينه ثاقبة، كوني رزينةً، وإلا كُتبت أسماؤنا على لوح المشاغبين العابثين بأمن السيد، وغرقنا في الضحك.
كانت الأطباق بسيطة، متواضعة، قليلة، وكمياتها معتدلة. وأكاد أجزم أن الطعام الذي بقي بعد الإفطار كان قليلًا جدًّا. قيل لنا بعد ذلك، إن تواضع المائدة كان بطلب وتوصية من السيد نفسه.
أذكر أننا فضّلنا المشاغبة على أن نأكل. وعدنا أنفسنا بوجبات دسمة في طريق عودتنا. رحنا نكتب رسائل بإمضاء: "عميل مجهول" ونوزّعها على الطاولات الخلفية خلسةً، متقصّدين استفزاز المرافقين المستنفرين لكل حركة بسيطة.
كنا الأطفال الوحيدين في قاعة تعجّ بالعلماء والرجال والضيوف من خارج لبنان. لذلك أعطانا منظمو حفل الإفطار، الطاولة الأخيرة في القاعة. «تمّ نفينا يا صديقة»، قلت لرفيقتي متصنعة نوبة من البكاء.
لا أنكر، أنني شعرت حينها بأننا مثل الطفيليات، وأننا جئنا نؤدي مراسم معينة، كي نقصى بعدها إلى مكان غير مرئي. كان شعورًا سيئًا لفتاةٍ تكتنز الكثير من عزّة النفس.
لكن ما حدث بعد الإفطار، والذي لم يزل أثره إلى الآن مثل هالةٍ فوق جبين قلبي، بعد كلّ هذه السنوات، ردّ لي الروح.
أخبرتك يا صغيري، كنا الأطفال الوحيدين في تلك القاعة، وفي تلك الليلة: ستة أطفال في الظلّ، شقاوتهم قد تتسبب بإحراجٍ لمجلس يحضره السيد.
لكن هذا السيد الوقور المحترم المحاط برجالٍ كالسباع، والنمور، لم يقبل أن يخرج من القاعة قبل أن يسأل عنّا: عن مجموعة الأطفال الذين أدّوا فقرة متواضعة. ليصرّ بعدها أن يذهب بنفسه إلى آخر القاعة حيث كنا بكامل شقاوتنا، ويسلّم علينا فردًا فردًا، يمازحنا، ويثني على إنشادنا الجميل.
قد تبدو هذه الحادثة بسيطة في عيون الكبار. قد تبدو هذه الحادثة عادية في هذا الزمن، حيث بات للأطفال دعاة وأصوات تنادي بالتربية الإيجابية الحديثة، والاحترام لكيان الطفل وحضوره. وبات كلّ لاهث خلف «الترند» والظهور، يتأبط الأطفال كواجهة للطف والكمال والجمال.
لكني أحدثكم عن زمن لم يكن فيه، وعن مناسبةٍ لم يكن في أمثالها التفات لحضور الطفل، وتلقيه هذا الشرف: أن يقصد رجل بحجم ومقام السيد مجلسهم الطفولي المشاغب، ليلقي عليهم التحية ويثني على أدائهم.
لم تكن هناك كاميرات صوّرت هذا المشهد. لم تكن تلك فقرة مقرّرة من برنامج استعراضي. كان تصرفًا تلقائيًا عفويًا من قبل إنسان يتمتع بهذا النبل والأخلاق.
هذا التصرف من سماحته شفى قلبي لحظتها، وأمدّ رئتي بدفعة كبيرة من الأوكسجين. التفتّ إلى صديقتي: لن يترك لنا هذا السيد مجالًا وحجة كي لا نحبه!
اللقاءات الأخرى بسماحته، لم يكن أثرها بأقل، ولكن للكلام بقية يومًا ما.
أكثر ما يلفتني في البشر، مهما علا شأنهم، ومهما امتلكوا من كنوز الأرض وأدوات السلطة فيها، هو الأخلاق. الأخلاق تحدّد عظمة الإنسان الذي أمامك، تحدّد صدقه، شفافيته، سعيه، مساره، وعمق القضية التي يحملها على كتفيه.
كنت كلما تأملت التعب والمشقة والإصرار والزهد الذي يحمله هذا السيد، وكلّما تذكّرت اللقب الذي يناديه به رجاله: «الحنون»، تساءلت: لم؟ وكيف لهذا القلب الرحيم أن يحمل جلجلة العالم فوق كتفيه، ويصرّ على المضيّ بهذا الثبات. أليس الدفاع عن الأرض والعرض، أليست مساندة المستضعفين عنوان ثقيل سيزهق روحه، وأرواح من معه؟ لم يركل كل هذا الجاه والمال وحلم أن يعيش كما البقية: بيت آمن، أسرة تحيطه بالدفء، كوب شاي، مكتبة، وزوجة يسكن إليها؟
لم أيها السيد؟ ما هذا السّر الذي حملته؟ ما هذه الروح النبيلة الشاهقة التي امتلكتها؟ ما هذا الحلم الذي أحرق فراشة فؤادك، حتى زهدت بالدنيا وما فيها، ممزقًا صكوك غفران جبابرة العالم، كي تقول كلمتك: لا! لا بوجه من يلتهم أرض ولحم المستضعفين ويشرب أرواحهم. لا بوجه من ركعت الدنيا لجبروتها: أمريكا، شيطانة هذه الأرض.
ولو باع من باع.. ولو وحيدًا، إلى لحظتك الأخيرة التي كنتَ مدركًا لمجيئها: «إلى اللقاء مع انتصار الدم على السيف! ».
كنت الفادي، والردّ على نداء الحسين سيد الأحرار في العالم، وسيد الثوار: أنا ناصرك. ناصر كل ثائر، مهما كان لونه، دينه، مذهبه، كلنا أبناء محمد. ومحمد رسول الله ورحمته، وخاتم النبيين، ولعن الله من يفرّقنا، ومن يقودنا إلى الفتن.
٨٣ طنًّا أيها العزيز، وبقيَ جسدك الشريف الذي نما على حبّ الناس، خدمتهم سالمًا طريًّا كقلوب الأطفال. ٨٣ طنًّا، الشاهد التاريخي لحقد عدوّ بحجم الإسرائيلي، على أشجع من نهض وقام مدججًا بوعد الله، متسلحًا بالشرف والصدق والنباهة في زمن الاستحمار العالمي، ليقارع جبابرة العالم برجاله وشعبه، ويقينه أن العين البصيرة تقاوم المخرز. ٨٣ طنًّا يا سيد! يا لهذه الحرارة في قلوب أشرف الناس، لن تنطفىء.
نعم يا بنيّ، «نحن في عالم منطقي يحكمه اللا منطق»: هذه الحقيقة الوحيدة التي أحملها منذ طفولتي، وأنا أرى العالم يحاكم الطير لأنها رفضت أن تأكلها الأفاعي، وقاومت كي لا تباد أعشاشها، وقاومت كي تحيا، لا كي تعيش! كي تطير، لا كي تطوقها السلاسل والقضبان.
أيها العزيز..
«ورأيت، رأيت بلادًا يلبسها الشهداء ويرتفعون بها» فكم ذا رفعتنا، وعلى منكبَيك رفعت البلاد.
أمل ناصر/ جريدة الأخبار
كاتبة وباحثة في أدب الطفل/ لبنان
بدت الأجواء كرنفالية؛ حيث صاحبت تعليق الفانوس الضخم عروض استعراضية ، وزين أحد جوانبه بكلمة فلسطين.
تفيد الدراسات النفسية بأنّه يمكن للأطفال أن يتعلموا العقيدة والإيمان بصورة صحيحة منذ وقت مبكر
في لحظات الفقد الكبرى، يظهر الأطفال بصورتهم البريئة وهم يعبرون عن مشاعرهم بأسلوب صادق ومؤثر..
2025 © جميع الحقوق محفوظة لموقع أمان الأطفال